"حُفَّتِ الجنَّةُ بالمَكارِهِ . وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ"
في رواية البخاري :
"حُجِبت النَّارُ بالشَّهواتِ ، وحُجِبت الجنَّةُ بالمكارهِ"
الراوي : أبو هريرة - المحدث : البخاري- المصدر : صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم: 6487 - خلاصة حكم المحدث :صحيح- الدرر=
وفي رواية مسلم:
"حُفَّتِ الجنَّةُ بالمَكارِهِ . وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ"
الراوي : أنس بن مالك - المحدث : مسلم - المصدر : صحيح مسلم- الصفحة أو الرقم: 2822 - خلاصة حكم المحدث : صحيح - الدرر=
*قال ابن ماجه في سننه:
3763 - أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَالَ: انْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَرَجَعَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا. فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهَا فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَى النَّارِ وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَرَجَعَ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ. فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، فَقَالَ: ارْجِعْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا. فَنَظَرَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، فَرَجَعَ وَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا " حكم الألباني : صحيح، ابن ماجه:2385.هنا= وهنا =
حفّت بالمكاره .فعلم بذلك أنّه لم يعد الطريق إليها سهلاً, بل هو طريق يحتاج بذل كل ما في الوسع, فمن أراد الجنة ونعيمها فليوطِّن نفسه لتحمل هذه المكاره التي حُفت بها الجنة ـ وهي الأمور التي تكرهها النفس لمشقتها
شرح الحديث:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -صلى الله عليه وسلم"حُجِبت النَّارُ بالشَّهواتِ" الحجاب معروف، فكأن النار قد وُضع دونها ستر، وحائل، وحجاب، لا يُتوصل إليها إلا بهتكه، فمن تخطاه يكون قد وصل إليها ودخل فيها، وكذلك الجنة لا يُتوصل إليها إلا بهتك ذلك الحجاب الذي حجبت به.
وفي رواية عند مسلم بلفظ"حُفَّتِ الجنَّةُ بالمَكارِهِ . وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ"، وهو قريب من معنى الأول، فحجبت كأنه وُضع ذلك حاجبًا، وحائلًا، وسترًا على الجنة، من تخطاه وصل إليها.
وحفت أي: أن ذلك أيضًا من جميع النواحي لا يُتوصل إلى الجنة إلا بتخطي هذه المكاره، والمرور بهذا الذي يحتف بها من الأمور التي يحصل بها إيلام للنفس، ومشقة أيًّا كانت هذه المشقات، فلو نظر الإنسان في التكاليف التعبدية، الصيام مثلاً فيه فطام للنفس عن الشهوات، والمألوف، وما يعتاده الإنسان من الطعام والشراب، وما إلى ذلك، فهذا من المكاره، لا يتوصل إلى الجنة إلا بخطم النفس وزمها عن هذا الذي تشتهيه.
وكذلك أيضًا إذا نظر الإنسان إلى الصلاة "وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"البقرة: 45، 46، فلماذا بعض المسلمين لا يصلي؟ لأنها شاقة ثقيلة، إلا على الخاشعين، فهذا من المكاره التي حفت بها الجنة. حفت الجنة بترك الشهوات التي تطمح إليها النفوس أيضًا، وهذا يحتاج إلى مجاهدة، إذا لاح للإنسان الطمع في ألوان المكاسب المحرمة، وكذلك أيضًا لاحت له الشهوات تطلبها نفسه، كما قال يوسف -صلى الله عليه وسلم- لما غلقت امرأة العزيز الأبواب"وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ"يوسف: 23.
وقال"وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ"يوسف:33، فالإنسان قد تتراءى له الشهوات، وتكون متاحة له، وهذا ترْكُه شاق على النفس، إذا أراد الإنسان أن ينظر إلى الحرام يحتاج إلى المجاهدة، يتذكر أن الجنة حفت بالمكاره.
إذا أراد أن يقوم من نومه ليصلي الفجر أو غير الفجر، والنوم يغالبه، هذا من المكاره التي حفت بها الجنة، ولهذا لما خلق الله الجنة كما في الحديث الآخر: أرسل إليها جبريل فنظر إليها، فقال"وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها" هنا=، لما فيها من ألوان الحبور، والنعيم، وألوان الملاذ من المطعومات والمشروبات، والملبوسات، والأثاث، والأرائك من القصور، والنساء التي في غاية الجمال، لا تمتخط ولا يصدر منها ويبدر ما يستقذر وتنفر منه النفوس، "وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفها الله بالمكاره"، بالجوع، بالسهر، بالتعب، بتكبد المصاعب طلبًا لمرضاة الله -عز وجل-، فنظر إليها جبريل فقال"وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد"، ما يصل إليها إلا بالمصابرة، ولهذا قال الله في آخر سورة آل عمران"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ"آل عمران: 200، ما قال: واصبر عليها.= هنا = والمصابرة: أي الملازمة والاستمرار على الصبر على الطاعات والمكاره.
والمرابطة: وهي لزوم المحل الذي يخاف من وصول العدو منه. فَعُلِمَ من هذا أنه لا سبيل إلى الفلاح بدون الصبر والمصابرة والمرابطة .تفسير السعدي.هنا =
"وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى "طه: .132 "وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا" أي - ملازمة الصبر- على الصلاة بإقامتها، بحدودها وأركانها وآدابها وخشوعها، فإن ذلك مُشق على النفس، ولكن ينبغي إكراهها وجهادها على ذلك، والصبر معها دائما، فإن العبد إذا أقام صلاته على الوجه المأمور به، كان لما سواها من دينه أحفظ وأقوم، وإذا ضيعها كان لما سواها أضيع.تفسير السعدي. ثم ضمن تعالى لرسوله الرزق، وأن لا يشغله الاهتمام به عن إقامة دينه، فقال" نَحْنُ نَرْزُقُكَ " أي: رزقك علينا قد تكفلنا به، كما تكفلنا بأرزاق الخلائق كلهم، فكيف بمن قام بأمرنا، واشتغل بذكرنا؟!فينبغي الاهتمام بما يجلب السعادة الأبدية، وهو: التقوى، ولهذا قال" وَالْعَاقِبَةُ " في الدنيا والآخرة " لِلتَّقْوَى " التي هي فعل المأمور وترك المنهي، فمن قام بها، كان له العاقبة، كما قال تعالى " وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" = هنا =
= النفس أيضًا قد تكره : الصدقة ، صلة الرحم، بر الوالدين، إكرام الجار فإن طاوعها هلك وإن خالفها وتصدق وبرَّ والديه ووصل أرحامَهُ وأكرم جيرانه فاز بالسعادة وهكذا. ابن باز -
"لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَظ°كِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَظ°ئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَظ°ئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ " البقرة:177 .
*ولما خلق النار، وبعث إليها جبريل، فنظر إليها يحطم بعضها بعضًا، في منظر كريه، نار مظلمة، سوداء هائلة، ضخمة، فقال"وَعِزَّتِكَ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ."، أي: لا يَسمعُ أحدٌ بما فيها مِن العذابِ والكُروبِ والتَّنكيلِ إلا كرِهَ أن يدخُلَها وابتعدَ عن مُسبِّباتِها.
"فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ"، أي: حفَّ اللهُ عزَّ وجلَّ النارَ وجعَلَ السَّبيلَ إليها، "بالشَّهواتِ، ، أي: أحاطَها اللهُ بالرَّغَباتِ والملَّذاتِ، ، حفت بالملايين من أموال الربا والحرام، حفت بالصفقات المحرمة، حفت بالنساء الجميلات، حفت بالمناظر التي يشاهدها الإنسان في الشاشة المحرمة، حفت بفاكهة المجالس الغيبة والنميمة، ينبسط على أعراض الناس، ويتوسع فيها، حفت بهذه الأشياء جميعًا، الاختلاس، السرقة، الأسهم المحرمة، وغير ذلك.
فنظر إليها جبريل فقال" وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ" أي: خافَ وأَشفَقَ ألَّا يَنجوَ مِنها أحدٌ؛ لِمَا حَوْلها من المغرِياتِ والملذَّاتِ، وهذا مِن بابِ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ لِمَا عندَ اللهِ، وأنَّ كلَّ شيءٍ في الآخرةِ بثَمنِه، وأنَّ مِن آثرَ نَعيمَ الدنيا وملَّذاتِها وسَعَى فيها واشتغل بها، فإنَّها تؤدِّي به إلى طريقِ النارِ في الآخرةِ، وأمَّا مَن تحمَّلَ شدائدَ الدُّنيا ومنغِّصاتها معَ الإيمانِ باللهِ فإنَّ ذلك يقودُه إلى طريقِ الجنَّةِ في الآخرةِ، وهذا مِصداقٌ لقوله تَعالى"فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى"النازعات: 37-41.شرح الحديث بالدرر=
- والناس تتوزع شهواتهم، فمن الناس من يكون الفخ أو الطعم الذي يصيده هو المال، ومنهم من يكون الطعم هو النساء، ومنهم من يكون الطعم الذي يصيده به الشيطان هو الغلو، ومنهم من يكون الطعم -نسأل الله العافية- هو العقوق، أو الأذية للناس، أو قطيعة الأرحام، أو غير ذلك من أنواع المحرمات.
فمنهم من يلج من هذا الباب، ومنهم من يلج من هذا، ومنهم من يكون من باب الرياء والسمعة، فقوم من باب الشهوات، وقوم من باب الشبهات، وقوم بالتفريط، وقوم بالإفراط، وهكذا، والنتيجة واحدة النار، نسأل الله العافية.
والمقصود بالشهوات: هي مطلوبات النفس، وحظوظها الحسية والمعنوية، فالحسية مثل الأكل والشرب، والمقصود بها الشهوات المحرمة، وأما المباحة فإنها لا توصل إلى النار، لكن لا يحسن الإكثار منها؛ لأنها تشغله عن الآخرة، ومطلوبات النفس المعنوية كالتعالي على الناس، والترفع، والعجب، والرياء والسمعة، وحب المحمدة في قلوب الخلق، وما أشبه ذلك.
وحجبت الجنة بالمكاره، وفي رواية: وحفت الجنة بالمكاره، فهذا كله يدل على أن من أراد أن يدخل الجنة فعليه أن يتخطى هذا الذي حفت به.
ومن سلك طريق الشهوات فهذا طريق يوصل إلى النار، ومن سلك طريق الصبر فإن ذلك يوصله إلى الجنة، وكنت ذكرت لكم بعض الأمثال التي ذكرها بعض أهل العلم تبين هذا المعنى في بعض المناسبات، ومن ذلك: أن مثل الإنسان في هذه الحياة مثل الرجل يطارده سبع، فتعلق في غصن شجرة، فنظر تحته فوجد حفرة فيها تنين فاغر فاه، ونظر إلى أصل الغصن وإذا بفأرين أسود وأبيض يقرضانه طول الوقت، ونظر فإذا بعسل خلية بجانبه، فذاقه، فوجده حلو الطعم، فنسي الحفرة، ونسي الغصن الذي سينكسر بعد قليل، والفأرين الأسود والأبيض اللذيْن يقرضانه بلا توقف، فجلس يلعق من هذا العسل، ساهٍ ولاهٍ عما ينتظره.
فالفأران هما الليل والنهار، يقرضان الأعمال قرضًا، قبل لحظةٍ أعمارُنا أطول، واليوم أطول من أمس، وهكذا، والحفرة القبر، والسبع الذي يطارده هذا هو الموت والأجل، وخلية النحل لذات الدنيا، وشهواتها، ينغمس فيها كثير من الناس، ونسوا ما ينتظرهم.
فنسأل الله -عز وجل- أن يشرح صدورنا لطاعته، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يتقبل منا ومنكم أجمعين، ويغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
فقوله -صلى الله عليه وسلم"حُجِبت النَّارُ بالشَّهواتِ" الحجاب معروف، فكأن النار قد وُضع دونها ستر، وحائل، وحجاب، لا يُتوصل إليها إلا بهتكه، فمن تخطاه يكون قد وصل إليها ودخل فيها، وكذلك الجنة لا يُتوصل إليها إلا بهتك ذلك الحجاب الذي حجبت به.
وفي رواية عند مسلم بلفظ"حُفَّتِ الجنَّةُ بالمَكارِهِ . وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ"، وهو قريب من معنى الأول، فحجبت كأنه وُضع ذلك حاجبًا، وحائلًا، وسترًا على الجنة، من تخطاه وصل إليها.
وحفت أي: أن ذلك أيضًا من جميع النواحي لا يُتوصل إلى الجنة إلا بتخطي هذه المكاره، والمرور بهذا الذي يحتف بها من الأمور التي يحصل بها إيلام للنفس، ومشقة أيًّا كانت هذه المشقات، فلو نظر الإنسان في التكاليف التعبدية، الصيام مثلاً فيه فطام للنفس عن الشهوات، والمألوف، وما يعتاده الإنسان من الطعام والشراب، وما إلى ذلك، فهذا من المكاره، لا يتوصل إلى الجنة إلا بخطم النفس وزمها عن هذا الذي تشتهيه.
وكذلك أيضًا إذا نظر الإنسان إلى الصلاة "وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"البقرة: 45، 46، فلماذا بعض المسلمين لا يصلي؟ لأنها شاقة ثقيلة، إلا على الخاشعين، فهذا من المكاره التي حفت بها الجنة. حفت الجنة بترك الشهوات التي تطمح إليها النفوس أيضًا، وهذا يحتاج إلى مجاهدة، إذا لاح للإنسان الطمع في ألوان المكاسب المحرمة، وكذلك أيضًا لاحت له الشهوات تطلبها نفسه، كما قال يوسف -صلى الله عليه وسلم- لما غلقت امرأة العزيز الأبواب"وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ"يوسف: 23.
وقال"وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ"يوسف:33، فالإنسان قد تتراءى له الشهوات، وتكون متاحة له، وهذا ترْكُه شاق على النفس، إذا أراد الإنسان أن ينظر إلى الحرام يحتاج إلى المجاهدة، يتذكر أن الجنة حفت بالمكاره.
إذا أراد أن يقوم من نومه ليصلي الفجر أو غير الفجر، والنوم يغالبه، هذا من المكاره التي حفت بها الجنة، ولهذا لما خلق الله الجنة كما في الحديث الآخر: أرسل إليها جبريل فنظر إليها، فقال"وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها" هنا=، لما فيها من ألوان الحبور، والنعيم، وألوان الملاذ من المطعومات والمشروبات، والملبوسات، والأثاث، والأرائك من القصور، والنساء التي في غاية الجمال، لا تمتخط ولا يصدر منها ويبدر ما يستقذر وتنفر منه النفوس، "وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفها الله بالمكاره"، بالجوع، بالسهر، بالتعب، بتكبد المصاعب طلبًا لمرضاة الله -عز وجل-، فنظر إليها جبريل فقال"وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد"، ما يصل إليها إلا بالمصابرة، ولهذا قال الله في آخر سورة آل عمران"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ"آل عمران: 200، ما قال: واصبر عليها.= هنا = والمصابرة: أي الملازمة والاستمرار على الصبر على الطاعات والمكاره.
والمرابطة: وهي لزوم المحل الذي يخاف من وصول العدو منه. فَعُلِمَ من هذا أنه لا سبيل إلى الفلاح بدون الصبر والمصابرة والمرابطة .تفسير السعدي.هنا =
"وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى "طه: .132 "وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا" أي - ملازمة الصبر- على الصلاة بإقامتها، بحدودها وأركانها وآدابها وخشوعها، فإن ذلك مُشق على النفس، ولكن ينبغي إكراهها وجهادها على ذلك، والصبر معها دائما، فإن العبد إذا أقام صلاته على الوجه المأمور به، كان لما سواها من دينه أحفظ وأقوم، وإذا ضيعها كان لما سواها أضيع.تفسير السعدي. ثم ضمن تعالى لرسوله الرزق، وأن لا يشغله الاهتمام به عن إقامة دينه، فقال" نَحْنُ نَرْزُقُكَ " أي: رزقك علينا قد تكفلنا به، كما تكفلنا بأرزاق الخلائق كلهم، فكيف بمن قام بأمرنا، واشتغل بذكرنا؟!فينبغي الاهتمام بما يجلب السعادة الأبدية، وهو: التقوى، ولهذا قال" وَالْعَاقِبَةُ " في الدنيا والآخرة " لِلتَّقْوَى " التي هي فعل المأمور وترك المنهي، فمن قام بها، كان له العاقبة، كما قال تعالى " وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" = هنا =
= النفس أيضًا قد تكره : الصدقة ، صلة الرحم، بر الوالدين، إكرام الجار فإن طاوعها هلك وإن خالفها وتصدق وبرَّ والديه ووصل أرحامَهُ وأكرم جيرانه فاز بالسعادة وهكذا. ابن باز -
"لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَظ°كِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَظ°ئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَظ°ئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ " البقرة:177 .
*ولما خلق النار، وبعث إليها جبريل، فنظر إليها يحطم بعضها بعضًا، في منظر كريه، نار مظلمة، سوداء هائلة، ضخمة، فقال"وَعِزَّتِكَ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ."، أي: لا يَسمعُ أحدٌ بما فيها مِن العذابِ والكُروبِ والتَّنكيلِ إلا كرِهَ أن يدخُلَها وابتعدَ عن مُسبِّباتِها.
"فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ"، أي: حفَّ اللهُ عزَّ وجلَّ النارَ وجعَلَ السَّبيلَ إليها، "بالشَّهواتِ، ، أي: أحاطَها اللهُ بالرَّغَباتِ والملَّذاتِ، ، حفت بالملايين من أموال الربا والحرام، حفت بالصفقات المحرمة، حفت بالنساء الجميلات، حفت بالمناظر التي يشاهدها الإنسان في الشاشة المحرمة، حفت بفاكهة المجالس الغيبة والنميمة، ينبسط على أعراض الناس، ويتوسع فيها، حفت بهذه الأشياء جميعًا، الاختلاس، السرقة، الأسهم المحرمة، وغير ذلك.
فنظر إليها جبريل فقال" وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ" أي: خافَ وأَشفَقَ ألَّا يَنجوَ مِنها أحدٌ؛ لِمَا حَوْلها من المغرِياتِ والملذَّاتِ، وهذا مِن بابِ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ لِمَا عندَ اللهِ، وأنَّ كلَّ شيءٍ في الآخرةِ بثَمنِه، وأنَّ مِن آثرَ نَعيمَ الدنيا وملَّذاتِها وسَعَى فيها واشتغل بها، فإنَّها تؤدِّي به إلى طريقِ النارِ في الآخرةِ، وأمَّا مَن تحمَّلَ شدائدَ الدُّنيا ومنغِّصاتها معَ الإيمانِ باللهِ فإنَّ ذلك يقودُه إلى طريقِ الجنَّةِ في الآخرةِ، وهذا مِصداقٌ لقوله تَعالى"فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى"النازعات: 37-41.شرح الحديث بالدرر=
- والناس تتوزع شهواتهم، فمن الناس من يكون الفخ أو الطعم الذي يصيده هو المال، ومنهم من يكون الطعم هو النساء، ومنهم من يكون الطعم الذي يصيده به الشيطان هو الغلو، ومنهم من يكون الطعم -نسأل الله العافية- هو العقوق، أو الأذية للناس، أو قطيعة الأرحام، أو غير ذلك من أنواع المحرمات.
فمنهم من يلج من هذا الباب، ومنهم من يلج من هذا، ومنهم من يكون من باب الرياء والسمعة، فقوم من باب الشهوات، وقوم من باب الشبهات، وقوم بالتفريط، وقوم بالإفراط، وهكذا، والنتيجة واحدة النار، نسأل الله العافية.
والمقصود بالشهوات: هي مطلوبات النفس، وحظوظها الحسية والمعنوية، فالحسية مثل الأكل والشرب، والمقصود بها الشهوات المحرمة، وأما المباحة فإنها لا توصل إلى النار، لكن لا يحسن الإكثار منها؛ لأنها تشغله عن الآخرة، ومطلوبات النفس المعنوية كالتعالي على الناس، والترفع، والعجب، والرياء والسمعة، وحب المحمدة في قلوب الخلق، وما أشبه ذلك.
وحجبت الجنة بالمكاره، وفي رواية: وحفت الجنة بالمكاره، فهذا كله يدل على أن من أراد أن يدخل الجنة فعليه أن يتخطى هذا الذي حفت به.
ومن سلك طريق الشهوات فهذا طريق يوصل إلى النار، ومن سلك طريق الصبر فإن ذلك يوصله إلى الجنة، وكنت ذكرت لكم بعض الأمثال التي ذكرها بعض أهل العلم تبين هذا المعنى في بعض المناسبات، ومن ذلك: أن مثل الإنسان في هذه الحياة مثل الرجل يطارده سبع، فتعلق في غصن شجرة، فنظر تحته فوجد حفرة فيها تنين فاغر فاه، ونظر إلى أصل الغصن وإذا بفأرين أسود وأبيض يقرضانه طول الوقت، ونظر فإذا بعسل خلية بجانبه، فذاقه، فوجده حلو الطعم، فنسي الحفرة، ونسي الغصن الذي سينكسر بعد قليل، والفأرين الأسود والأبيض اللذيْن يقرضانه بلا توقف، فجلس يلعق من هذا العسل، ساهٍ ولاهٍ عما ينتظره.
فالفأران هما الليل والنهار، يقرضان الأعمال قرضًا، قبل لحظةٍ أعمارُنا أطول، واليوم أطول من أمس، وهكذا، والحفرة القبر، والسبع الذي يطارده هذا هو الموت والأجل، وخلية النحل لذات الدنيا، وشهواتها، ينغمس فيها كثير من الناس، ونسوا ما ينتظرهم.
فنسأل الله -عز وجل- أن يشرح صدورنا لطاعته، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يتقبل منا ومنكم أجمعين، ويغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.
اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق