المرويات الواهية في سيرة ابن إسحاق (1)
د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *
د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين ..
وبعد ..
فإن السيرة النبوية تعد التطبيق العملي للإسلام ؛ ولذلك فإن أي شائبة تشيبها تشيب الإسلام نفسه ، وأي خطأ في فهمها سيترتب عليه خطأ في فهم الإسلام ، وقد تأملت في كتب السيرة خلال دراستي الطويلة فوجدت ـ رغم المجهود العظيم الذي بذل في جمعها وتهيذبها وكتابتها ـ ما زال فيها بعض الأخبار الواهية والأساطير التي ربما وضعت على حسن نية من كاتبيها ..
تلك الروايات التي أراد واضعوها من ذكرها وروايتها أو تسطيرها الرفع من شأن رسول الله صلى ، وأن تجعل حياته ـ وخاصة في فترة ما قبل بعثته ـ قائمة كلها على كسر النواميس الكونية ، فأساءوا إليه من حيث لا يدرون ، ولم يعوا أن الله سبحانه وتعالى أعد نبيه ليجعله قدوة للبشر يتأسون به ، وأن جعل حياته كلها قائمة على المعجزات تجعل الاقتداء به مستحيلا ، فكيف يتأسى البشر بما هو خارج عن نواميس الكون.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحيا حياة طبيعية قائمة على الفطرة النقية التي يفطر الله البشر عليها ،وقد تعجب المشركون لأنهم لم يروا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالف حياة البشر فقالوا كما حكى القرآن الكريم :" مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا " [الفرقان/7، 8]..
وأكد القرآن الكريم أن الرسول لا يمكن أن يؤدي رسالته إلا إذا كان بطبيعته البشرية ، ورد على من تمنوا أن يكون في صورة ملك بقول الله سبحانه وتعالى :" وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام/9] ..
وراح بعض رواة السيرة الأوائل ـ رحمهم الله ـ بدلا من يركزوا جهدهم في ذكر ما فيه النفع من حياة النبي صلى الله عليه وسلم يجمعون كل شاردة وواردة مما لا طائل من ذكره ، ولا أقول ذلك للقدح فيهم ، بل أدعو الله لهم أن يجزل لهم المثوبة ، وإنما أذكر ذلك فقط لأؤكد على أنه قد حان الوقت لأن نتخلص من مثل تلك الروايات ، وننشغل بما يدفع الناس إلى التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع هديه والسير على منهاجه .
والعجب أيضا أن يجعل هؤلاء من كلام الكهنة إن صح نسبة الكلام هذا إليهم كأنهم لا ينطقون عن الهوى ، وينسبون إليهم أحداثا تمت فيما بعد تجعل كل ما يصدر إليهم صحيحا ، مع إن تنبؤات الكهان كانت مجرد خزعبلات ليس فيها من الصحة شيء ، وكل ما هنالك أنهم كانوا يزينوها بالسجع لتوقع تأثيرًا ورنينا في آذان السامعين ، ومما يؤكد أن سجعهم لم يكن فيه شيء من الصحة أن القرآن أكد مرارا على أن رسول الله ليس بكاهن .
ولو تفكر هؤلاء لعلموا أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة وسلوكه هو خير دليل على عظمته ، وأنه ليس في حاجة لأن تنسب إليه الأساطير أو الروايات المبالغ فيها ، يقول ابن حزم ـ رحمه الله ـ : " إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورةً، وتشهد له بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًا، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلى الله عليه وسلم لكفى " .(1) ..
ويقول محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ وقد كانت رسالة محمد بن عبدالله أخطر ثورة عرفها العالم للتحرر العقلي والمادي، وكان جند القرآن أعدل رجال وعاهم التاريخ، وأحصى فعالهم في تدويخ المستبدين وكسر شوكتهم، طاغية إثر طاغية ، فلما أحب الناس -بعد انطلاقهم من قيود العسف- تصوير هذه الحقيقة، تخيلوا هذه الإرهاصات، وأحدثوا لها الروايات الواهية، ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ غني عن هذا كله؛ فإن نصيبه الضخم من الواقع المشرف يزهدنا في هذه الروايات وأشباهها (2) .
وسأحرص في هذه السلسة من المقالات على أن أجمع المرويات الواهية التي وردت في السيرة النبوية التي جمعها ابن إسحاق وهذبها من بعده ابن هشام ، والتي صارت فيما بعد عمدة كتب السيرة النبوية الشريفة القديم منها والحديث ، فما من كاتب إلا واتخذها مصدرًا أساسيًّا له ..
وأول تلك الروايات الرواية التي تحكي قصة عزم عبد المطلب على ذبح ولده عبد الله ، هذه القصة التي قلما يخلو منها كتاب من كتب السيرة القديمة رغم أن ابن إسحاق ذكرها بما يفيد ضعفها فقال :
وكان عبد المطلب بن هاشم فيما يذكرون قد نذر حين لقي من قريش عند حفر زمزم ما لقي لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم لله عز وجل عند الكعبة ، فلما توافى بنوه عشرة الحارث والزبير وحجل وضرار والمقوم وأبو لهب والعباس وحمزة وأبو طالب وعبد الله ، وعرف أنهم سيمنعونه جمعهم ثم أخبرهم بنذره الذي نذر ، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك ، فأطاعوا له وقالوا له : كيف تصنع ؟ فقال : يأخذ كل رجل منكم قدحًا فيكتب فيه اسمه ثم تأتوني ففعلوا ، ثم أتوه فدخل بهم على هُبَل في جوف الكعبة ، وكان هُبل عظيم أصنام قريش بمكة ، وكان على بئر في جوف الكعبة ، وكانت تلك البئر التي يجمع فيها ما يهدَى للكعبة ..
وكان عند هُبل سبعة أقداح ، في كل قدح منها كتاب ، قدح فيه العقل ، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة ، وفيها قدح العقل ، فعلى من خرج حمله ، وقدح فيه نَعَم للأمر ، إذا أرادوه ضرب به في القداح فإن خرج قدح نعم عملوا به ، وقدح فيه لا فإذا أرادوا أمرًا ضربوا به في القداح فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر ، وقدح فيه منكم ، وقدح فيه غيركم ، وقدح فيه ملصق ، وقدح فيه المياه فإذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح ، وفيها ذلك ، فحيثما خرج عملوا به ، وكانوا إذا أرادوا أن يختتنوا غلامًا أو ينكحوا منكحًا أو يدفنوا ميتًا أو شكوا في نسب أحد منهم ذهبوا بهإ لى هُبل ..
وذهبوا معهم بجزور ومائة درهم إلى صاحبة القداح التي تضرب بها فأعطوها إياه ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ، وقالوا : اضرب ! اللهم اخرج على يديه اليوم الحق ، ثم استقبلوا هبل فقالوا يا إلهنا هذا فلان بن فلان كما زعم أهله يريدون كذا وكذا ، فإن كان كذلك فأخرج فيه العقل أو نعم أو منكم وأقبل هديته ، فإن خرج من هؤلاء الثلاثة كتب في قومه وسيطا ، وإن خرج عليه من غيركم كان حليفًا ، وإن خرج عليه ملصق كان منزله فيهم لا نسب ولا حلف ، وإن خرج فيه شيء مما سوى هذا مما يعملون به نعم عملوا به ، وإن خرج لا أخروه عامه ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى ينتهون من أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح ، فقال عبد المطلب : اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه ، وأخبره بنذره ، وأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه ، وكان عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم أصغر بني أبيه ، كان هو والزبير وأبو طالب لفاطمة بنت عمرو بن عابد بن عبد الله بن عمران بن مخزوم ، وكان فيما يزعمون أحب ولد عبد المطلب إليه ، وكان عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى ..
فخرج القدح على عبد الله فأخذ عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة ، ثم أقبل به إلى أساف ونائلة الوثنين اللذين تنحر عندهما قريش ذبائحهم ليذبحه ، فقامت إليه قريش من أنديتها فقالوا : ماذا تريد يا عبد المطلب ؟ فقال : أذبحه وأنشأ يقول
عاهدت ربي وأنا موف عهده .. . أيام أحفر وبني وحده
والله لا أحمد سيأ حمده . .. كيف أعاديه وأنا عبده
إني أخاف أن أخرت وعده .. . أن أضل إن تركت عهده
ما كنت أخشى أن يكون وحده . .. مثل الذي لاقيت يوما عنده
أوجع قلبي عند حفري رده . .. والله ربي لا أعيش بعده(3)
يقول ابن إسحاق : فقالت قريش وبنوه والله لا تذبحه أبدا ونحن أحياء حتى نعذر فيه لئن فعلت هذا لا يزال رجل يأتي بابنه حتى يذبحه فما بقاء الناس على ذلك (4) . وفي رواية أخرى : لا تفعل وانطلق إلى الحجاز فإن به عرافة يقال لها : سجاح لها تابع فسلها ثم أنت على رأس أمرك ، فإن أمرتك بذبحه ذبحته ، وإن أمرتك بغير ذاك مما لك وله فيه فرج قبلته ، فقال : نعم فانطلقوا حتى قدموا المدينة فوجدوها فيما يزعمون بخيبر ، فركبوا حتى جاؤوها فسألوها وقص عليها عبد المطلب شأنه وشأن ابنه وما كان نذر فيه ، فقالت لهم : ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله فخرجوا من عندها ، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل ويقول :
يا رب لا تحقق حذري .. . واصرف عنه شر هذا القدر
فإني أرجو لما قد أذر . .. لأن يكون سيدا للبشر
ثم غدوا إليها فقالت : نعم قد جاءني الخبر فكم الديه فيكم ؟ فقالوا : عشرة من الإبل ، وكانت كذلك ، فقالت : فارجعوا إلى بلادكم فقدموا صاحبكم وقدموا عشرا من الإبل ثم اضربوا عليها بالقداح ، فإن خرجت القداح على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم عز وجل ، فإذا خرجت القداح على الإبل فقد رضي ربكم فانحروها عنه ، ونجى صاحبكم ..
فخرجوا حتى قدموا مكة ، فلما أجمعوا لذلك من الأمر ضربوا القداح فخرج السهم على عبد الله ، فظلوا يزيدون عشرا حتى خرج السهم على الإبل ، فقالت قريش ومن حضره : قد رضي ربك وخلص لك ابنك (5) .
وهذه الرواية تحكم على نفسها بالكذب لأنها تذكر أن عبد الله كان أصغر بني عبد المطلب وأحبهم إليه ، مع إنه من المسلم به أن حمزة والعباس ـ رضي الله عنهما ـ كانا قريبين من النبي صلى الله عليه وسلم في العمر ، إذن فلم يكونا ولِدَا بعد ، وكان من الممكن أن يرد على ذلك بأنه أصغر بنيه الموجودين وقتها لولا أن الرواية ذكرت أنهم عشرة وعدت من بينهم العباس وحمزة ـ رضي الله عنهما ـ كما تذكر الرواية أن العباس بن عبد المطلب اجتره من تحت رجل أبيه حين هم بذبحه أول مرة حتى خدش وجه عبد الله خدشا لم يزل في وجهه حتى مات ، كيف والعباس ولد بعدها بعشرين عاما أو أكثر ؟!.
وأما حديث أنا ابن الذبيحين الذي يستشهد به البعض على صحة تلك الرواية فقد قال عنه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (1 / 500) : لا أصل له بهذا اللفظ . وفي "الكشف" (1 / 199) : قال الزيلعي وابن حجر في "تخريج الكشاف " : لم نجده بهذا اللفظ. وقال عنه الذهبى (إسناده واه).وقال بن كثير فى تفسيره (4/18) "وهذا حديث غريب جداً""ونقل الحلبى فى سيرته عن السيوطى أن هذا الحديث غريب ،وفى إسناده من لايعرف".
وثاني تلك الروايات ما رواه ابن إسحاق أن ربيعة بن نصر ملك اليمن رأى رؤيا هالته وفظع بها ، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه فقال لهم : إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبروني بها وبتأويلها ، قالوا له : اقصصها علينا نخبرك بتأويلها ، قال : إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها فإنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها ، فقال له رجل منهم فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق فإنه ليس أحد أعلم منهما فهما يخبرانه بما سأل عنه ...
قال ابن إسحاق : فبعث إليهما فقدم عليه سطيح قبل شق فقال له : إني رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبرني بها فإنك إن أصبتها أصب تأويلها قال : أفعل رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة فقال له الملك : ما أخطأت منها شيئا يا سطيح فما عندك في تأويلها ، فقال أحلف بما بين الحرتين من حنش ليهبطن أرضكم الحبش ، فليملكن ما بين أبين الى جرش ، فقال له الملك : وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني هذا أم بعده ، قال : لا بل بعده بحين أكثر من ستين أوسبعين يمضين من السنين ...
قال : أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع ؟ قال : لا بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين ، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين ، قال : ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم ؟ قال : يليه إرم ذي يزن ، يخرج عليهم من عدن فلا يترك أحد منهم باليمن ، قال أفيدوم ذلك من سلطانه أم يقطع ؟ قال : لا بل ينقطع ، قال ومن يقطعه ؟ قال : نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي ..
قال : وممن هذا النبي ؟ قال رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر ، قال : وهل للدهر من آخر ، قال : نعم . يوم يجمع فيه الأولون والآخرون ، يسعد فيه المحسنون ، ويشقى فيه المسيئون ، قال أحق ما تخبرني ، قال : نعم . والشفق والغسق والفلق إذا اتسق إن ما أنبأتك به لحق ...
ثم قدم عليه شق فقال له كقوله لسطيح وكتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان ، فقال : نعم رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة ، قال : فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقا ، وأن قولهما واحد ، إلا أن سطيحا قال : وقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة ، وقال شق وقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة ، فقال له الملك : ما أخطأت يا شق منها شيئا ، فما عندك في تأويلها ، قال : أحلف بما بين الحرتين من إنسان لينزلن أرضكم السودان ، فليغلبن على كل طفلة البنان ، وليملكن ما بين أبين إلى نجران ، فقال له الملك : وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده ، قال : لا بل بعده بزمان ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان ويذيقهم أشد الهوان ، قال : ومن هذا العظيم الشان ؟ قال : غلام ليس بدني ولا مدن يخرج عليهم من بيت ذي يزن فلا يترك أحدا منهم باليمن ، قال : أفيدوم سلطانه أم ينقطع ؟ قال : بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل يكون الملك في قومه الى يوم الفصل ..
قال : وما يوم الفصل ؟ قال : يوم تجزى فيه الولاء ، ويدعى فيه من السماء بدعوات يسمع منها الأحياء والأموات ، ويجمع فيه بين الناس للميقات ، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات ، قال : أحق ما تقول ؟ قال : إي ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض إن ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض (6) .
وهذه الرواية يبدو عليها الوضع لأنها :
ـ أولا : تذكر أن سطيحا وشقا علما برؤية ربيعة دون أن يخبرهما بها ، وهذا أمر مستحيل لأنه لا يطلع على ما في الصدور إلا علام الغيوب ، فإذا كانت الجن تسترق السمع من السماء وتأتي به فهذا أمر ممكن كما أخبر القرآن الكريم ، أما أن تصل إلى مكنون الإنسان وتستخرج ما في قلبه أو تطلع عليه فهذا أمر لا يقره عقل ولا شرع ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى الخلق منزلة كان لا يطلع على ما في قلوب الناس حوله ، وأكد ذلك القرآن الكريم في قول الله عز وجل عن المنافقين :" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ "[البقرة/204]..
كما أن الرواية تشير إلى علمها بالغيب والمستقبل بطريقة تفصيلية ، وهذا أمر اختص به الله سبحانه وتعالى ، وقال نبيه صلى الله عليه وسلم كما حكى القرآن الكريم :" وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" [الأعراف/188]..
ـ ثانيا : أن تلك الرواية تذكر أن الملك يدوم في قوم النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أمر لم يحدث ، فقد انقطع بزوال ملك بني العباس .
ـ ثالثا : أن تلك الرواية تذكر أن سطيحا وشقا يعلمان أن الله حقا وسيرسل رسوله بالحق وأن هناك حسابا وجنة ونارا ورغم ذلك يقسمان بغيره في كل مرة يؤكدان فيها كلامهما ( الشفق والغسق والفلق ) .
ثم انظر أخيرا في صفة هذين الرجلين ، يقول ابن كثير : " ويقال إن سطيحا كان لا أعضاء له ، وإنما كان مثل السطيحة ووجهه في صدره ، وكان إذا غضب انتفخ وجلس ، أما شق فكان نصف إنسان ( انظر السيرة النبوية لابن كثير : جـ 1 صـ 15 ) فمسخان معقوان أو مشوهان طريحان الفراش من أين لهم هذا العلم ؟؟ هل كان يوحى إليهم من السماء ؟؟ وهذا أبلغ دليل على وهن تلك الرواية التي يُستشهد بها بعض الرواة على نبوة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ..
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله إن كان في العمر بقية وفي الصحة متسع .
ـــــ
الهوامش :
*مدير موقع التاريخ الالكتروني .
1 ـ جوامع السيرة - (ج 1 / ص 2).
2 ـ فقه السيرة للغزالي.
3 ـ سيرة ابن إسحاق (ج 1 / ص 10 وما بعدها) تحقيق محمد حميد الله.
4 ـ المصدر السابق : (ج 1 / ص 12).
5 ـ المصدر السابق : (ج 1 / ص 14 وما بعدها ).
6 ـ السيرة النبوية لابن هشام - (ج 1 / ص 124 وما بعدها )
المصدر
موقع التاريخ
الألوكة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق